بعد أن خلق الله الملائكة والجن، أراد الله سبحانه لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو، أن يخلق خليفةً له في هذا الكون،
فجمع الله سبحانه الملائكة والجن، وأطلعهم على الخبر الذي أراده أن يكون،
فقال لهم [( إني جاعلٌ في الأرض خليفة)]…
أتجعل فيها من يفسد فيها؟
وكان هذا الأمر مستغربا من الملائكة، وتساءلوا كيف يجعل الله له خليفةً في الأرض وهو سبحانه القادر على تولي أمور الدنيا والآخرة والسماء والأرض بدون أن يخلفه فيها شيئاً،
فجاء تساؤلهم ليستفسروا عن الأمر، [( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)]
فقال لهم الله سبحانه وتعالى [(إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون”)]
لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر…
وحينما نتدبر ذلك؛
نجد أن الله تعالى أراد أن يجتبي من هذا الخلق الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين،
أراد الله أن يحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة،
وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان،
وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه، واتصف به،
فهذه حكم عظيمة لا يعلم مدى عظمتها سوى الحكيم العليم سبحانه…
هل انتهى الحوار إلى هنا ؟
الإجابة هي لا …
فكما خلقهم سبحانه وتعالى وصبغهم بصبغتهم الملائكية، خلق هذا المخلوق وصبغه صبغته الخاصة بطبيعته…
مراحل خلق آدم عليه السلام:
المرحلة الأولى:
بدأ الله -تعالى- خلق آدم -عليه السلام- من التراب
لقوله -تعالى-: [( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ۖ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)]
ثمّ أضاف -تعالى- إلى التراب ماءً ليُصبح طيناً،
لقوله -تعالى: [( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)]،
وقوله -تعالى-: [(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ)]، حيث يراد بلفظ (لَّازِبٍ)؛ أي قويٍ جامد.
المرحلة الثانية:
جعل الله -تعالى- الطين حمأً مسنوناً وهو الطين المخمر، الذي تغير لونه إلى الأسود،
لقوله -تعالى-: (وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ مِن صَلصالٍ مِن حَمَإٍ مَسنونٍ).
وبعد أن جفّ الحمأ المسنون ويبس أصبح صلصالاً كالفخار،
[(خلق الإنسان من صلصال كالفخار)]
المرحلة الثالثة:
نفخ الله -تعالى- من روحه في الصلصال ليصبح بشراً حياً، ثمّ أمر ملائكته بالسجود له سجود تعظيم وترحيب،
لقوله -تعالى-: (فَإِذا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فيهِ مِن روحي فَقَعوا لَهُ ساجِدينَ)
إني أعلم مالا تعلمون
أخذ – سبحانه – في بيان جانب من حكمة خلق آدم ، وجعله خليفة في الأرض
فقال تعالى: [( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين )]
الله سبحانه بذاته علم آدم الأسماء كلها … بيانا لفضل العلم والتعلم…
فبدون العلم لم يكن لهذا المخلوق قيمة تذكر …
وانظر إلى حكمة الله في بيان فضل هذا العلم…
فقبل أن يأمرهم بالسجود له، تحداهم بأن يكون عندهم مثل ما عند هذا المخلوق الجديد من علم…
فما كان من الملائكة إلا أن [( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ۖ إنك أنت العليم الحكيم )]
فرد سبحانه وتعالى: [( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ۖ فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون )]
وهنا بعد أيقنت الملائكة حقيقة وعظمة هذا المخلوق الذي تجلت فيه قدرته سبحانه وتعالى جاء أمره تعالى لهم فقال عز وجل: [( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )]
لما علمه الله، أصبح له شأنا … وبهذا المقام المكتسب أمر ملائكته أن يسجدوا له تعظيما لخلق الله ولعلم الله فيه …
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها عليه وعلى ذريته.
أنا خير منه
سجد الملائكة كلهم ولكن تمرد على هذا الأمر إبليس الذي كان جزاؤه اللعن والطرد من رحمة الله…
قال عز وجل: [( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )] (البقرة – 34)
[(إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين)] (الحجر – 31)
وانظر الى حكمة الله سبحانه وتعالى..
بدأ الله معه الحواروهو أعلم به سبحانه…
[(قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين)] (الحجر – 32)
[(قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ۖ أستكبرت أم كنت من العالين)] (ص – 75)
فرد عليه إبليس…
[(قال أنا خير منه ۖ خلقتني من نار وخلقته من طين)] (ص – 76) (الأعراف – 12)
فاتضح للحاضرين أن إبليس عصى أمر الله عن قصد وليس عن عذر نسيان أو عدم قدرة…
فرد عليه سبحانه بقوله:
[( قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ)] (الحجر – 34:35)
ومع أن إبليس في هذا الموقف الذي فيه عصيان وهو مغموس في تكبره واستكباره، ومع ذلك لم يمنعه ذلك من الطمع في استجابه ربه وقدرته على إجابة الدعاء …
[( قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ )] (الحجر – 36)
فاستجاب الله له …
[( قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ* إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ)] (الحجر – 38:37)
يعني لن تموت إلا قبل قيام الساعة…
فبدلا من أن يشكر الله ويتوب إليه، استخدم استجابة الله له ليتحدى الله …
[(قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ)] (الحجر – 40:39)
كأنه يقول لربه: هذا الإنسان الذي تريد أن تجعله خليفة وسلحته بالعلم – سأعمل على أن أغويه عن هذه الغاية وسأجعل شهوته تغلب علمه…
سأنزله من علوّ العلم إلى سفالة الشهوة…
سأغري كل البشر إلا نوع استثنائي…
لن أستطع أن أقترب ممن خلصته لجلالك وحميته بحمايتك…
فرد عليه الله برد يصحح له ظنه ويعكس له توقعه…
[(قَالَ هَٰذَا صِرَٰطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ)] (الحجر – 42:41)
أي أنك في الأصل لن تستطيع أن تغوي أي أحد من البشر إلا نوع استثنائي وهو من أراد الغواية …
فهذا عكس لظن الشيطان…
الشيطان يظن أن من لن يقدر عليه هو الاستثناء …
بينما يوضح الله له أن من يقدر عليه الشيطان هو الإستثناء …
يعني الشيطان يقول أن العصيان هو القاعدة بينما الطاعة هي الإستثناء …
لكن الله سبحانه وتعالى يقول أن الطاعة هي القاعدة بينما العصيان هو الإستثناء…
ثم حذر الله آدم من هذا العاصي المطرود من رحمة الله…
[(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)] (طه – 117)
هل استجاب آدم لهذا التحذير؟
انقر هنا لتعرف ماذا حصل…
الدروس المستفادة من خلق آدم عليه السلام:
1- أن الإنسان مخلوق مكرم مفضل على كثير ممن خلق الله عز وجل…
فقد فضله الله تعالى بأن علمه الأسماء كلها ثم شرفه بأن أسجد له ملائكته وهو سجود تكريم…
2- أن أبليس استحق اللعن والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى جزاء ما اقترف من جرم عظيم… هذا الجرم هو الإستكبار… هو تقديم النفس على أمر الرب…
خالف أمر الله عز وجل له، وليس هذا فقط … بل أصر على فعله بدافع الحسد والظن الفاسد بخيريته على آدم عليه السلام…
سؤال: متى آخر مرة قدمت فيها نفسك على حساب أمر من أوامر ربك؟!
3- أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فعليه التسليم، واتهام عقله، والإقرار لله بالحكم.
4- فضيلة العلم، وأن الله تعالى عرّف للملائكة فضل آدم بالعلم، وأنه أفضل صفة تكون في العبد.
5- ليس الشأن فيما تقوله، لكن الشأن في كيف تقوله….
فالملائكة وابليس كلامها حصل استغراب من خلق هذا المخلوق… لكن الملائكة سألت استفهاما بينما ابليس سأل استنكارا… والله لا معقب لحكمه…
6- القاعدة الأساسية أن الإنسان في حد ذاته ضعيف [( وخلق الإنسان ضعيفا )] …
لكن سلحه الله بالعلم … [( وعلم آدم الأسماء كلها )] …
وأمره الله أن يطلب منه المزيد من العلم [( وقل رب زدني علما )] …
وهذا العلم يعطي الإنسان قوة …
هذه القوة لها القدرة على التغلب على جميع النزوات والشهوات…
فمن ترك العلم واتبع هواه؛ رجع ضعيفا كما في أصل خلقته وتخلى عن درعه وميزته…
فأصبح هو الإستثناء من القاعدة… فالله قال: [( إن كيد الشيطان كان ضعيفا )]
فلن يستطيع ضعيف أن يغلب قويّ… لكن يستطع الضعيف أن يغلب ضعيفا مثله…