كان لي صديق مغترب في دولة أوروبية يعمل ويعيش هناك. وكانت كل مدخراته يرسلها إلى شيخ في القرية إسمه الشيخ عبد المعز.
هذا الشيخ أهل للثقة، وتعرفه القرية كلها، لأنه كان إمام المسجد الكبير، بالإضافة إلى أنه كان رئيس لجنة فض المنازعات بين الأفراد والعائلات في القرية وفي القرى المجاورة.
و هذه اللجنة هو أول من أسسها، وانتشرت فى القرى المجاورة بل وفى المركز، وتعدت الى كل أنحاء المحافظة وذاع صيتها والحمد لله…
كانت هذه اللجنة مؤثرة جدا وأتت بنتائج كبيرة جدا، ومرضية لكل الأطراف، وبالتالى قلت الشكاوى والمحاكم والمحامين …الخ
المهم…
علم صديقي أن الشيخ عبد المعز قد يسافر بعثة قد تطول إلى الدول العربية. بناءا عليه لا يستطيع أن يبقي أموال صديقي معه.
عرض عليّ صديقي أن يقوم الشيخ عبد المعز بسحب وتحويل المدخرات من حسابه إلى حسابي… وقلت له نشكر لكم حسن الثقة وإن شاء الله سأكون عند حسن ظنكم بي…
الوصول للقرية وتحديد الموعد
وبعد فترة قليلة قلت له أني مسافر إلى القرية؛ إتصل بـ الشيخ عبد المعز ورتب معه الموضوع لكلي يكون عنده علم…
وبالفعل سافرت إلى قريتنا وبعد يومين جاء الشيخ عبدالمعز ليسلم عليّ وجاء بواجب كبير وأكثر من المعتاد …فقلت له مازحا و ضاحكا لية التعب والتكلفة يا شيخنا….فقال ان لم نتعب ونتكلف لكم فلمن اذن يا باشمهندس هذا أقل واجب ومقامكم أكبر من ذلك …
شربنا الشاى وتبادلنا أطراف الحديث ولكن الفرصة لم تكن سانحة للتحدث فى موضوع صاحبنا لأن الزوار كثر ولا بد وأن تعطي اهتمام لكل الزوار وتقدره بقدر ما قدرك و جاء ليسلم عليك …
هذه عادات القرى التي قد تكون اندثرت الآن، ولكن لا تزال موجودة على نطاق ضيق، ومختصرة فى العائلة والجيران المقربين …
المهم…
عندما هم بالانصراف أخذته إلى الخارج لتوديعه وشكره على الزيارة والواجب، وقلت له إن لنا لقاء آخر بخصوص صاحبنا.
فقال لي: نعم. إتصل بي وأنا على علم بالموضوع، وحدد أنت الميعاد، وقل لي قبلها بيوم حتى أتفرغ، لأننا سنسافر إلى المحافظة التى تبعد حوالي 70 كيلو… فقلت له على بركة الله …
وبعد 3 أيام وكان يوم خميس ذهبت إلى المسجد لصلاة العشاء ومقابلة الشيخ لأنه فى ذلك الحين لا توجد هواتف محمولة ولا ثابتة ولا فيس ولا أى من مواقع الاتصال الاجتماعية مثل الآن…
فكانت المواعيد إما شفويا أو أن ترسل له مرسال إما بشخص أو بخطاب ورقي… وغالبا كانت كل المواعيد شفهية أو المرسال الشخصي.
و كان الرد يأتيك إما بالموافقة أو التعديل…
وكانت الكلمة والميعاد يحترم، ويعتبر سيف، ولا يتم الرجوع أو الإخلال به إلا في النادر أو الحالات الخارجة عن الإرادة مثل حالات مرض أو وفاة أحد الأقارب أو الحوادث العرضية…
ويتم الإعلان قبل الميعاد المحدد بالتأجيل أو الإلغاء لحين زوال العارض… المهم…
تحدد الميعاد يوم السبت الساعة الثامنة صباحا عند محطة الميكروباص…
مفهوم البركة ببساطة
استيقظت مبكرا، وذهبت إلى المكان قبل الموعد بربع ساعة؛ ولكني وجدته فى انتظاري – دليل على أنه معطي للموضوع الأهمية القصوى -.
تبادلنا إلقاء التحيات وقلت له أحببت أن آتى مبكرا حتى لاتنتظر يا مولانا!
فضحك وقال لي: نحن أحرص وأدق من أوروبا فى المواعيد…
وبدأ الحوار الجاد وقال: أقسم بالله العظيم ثلاثا أننا من الآن وحتى العودة ستكون كل المصاريف من أجرة المواصلات والأكل والشرب على حسابي الشخصي دون أن تتكلف أنت أى أعباء مادية…
فقلت له: يا شيخ نحن في مهمة لصالح طرف ثالث، والعرف يحتم أن تكون كل المصاريف على حسابه، ولكن أنا متبرع بالمصاريف لأنه صديقي، ولنا تبادل مصالح…
فقال لي: أنا أقسمت وانتهى الموضوع…
فقلت له: وماذا أنت مستفيد؟
فقال لي: ((( البركة )))…
فقلت: وما دخل البركة فى مثل هذه المواضيع ؟!
فقال لي: يا أخي إذا حلت البركة في شيء؛ زادته الكثير، واستفاد منها الكثير…
جاء الميكروباص فصعدنا، وأكملنا الحوار والحديث عن البركة…
وقال: أنا الحمد لله، أتقاضى راتبي الشهري من وزارة الأوقاف كواعظ، وليس لي أي دخل آخر سوى بعض البدلات، والأعياد، وبعض إيجار قطعة أرض ورثتها عن والدي قد تكون معدومة…
ولكن بحمد الله دخلي كله فيه بركة، وبركة لا يصدقها أحد ، وأعيش مستور الحال…
لا أدخن، والحمد لله الأولاد والزوجة بصحة وعافية وبالتالى لا نذهب إلى الطبيب ولا إلى الصيدلية، وعلاقتي بالجميع كما ترى وتشاهد ليس عندي عداوة ولا بغضاء ولا مشاحنة مع أحد والعكس…
وبالتالى مرتبي على الأكل والشرب والملابس فقط… أليس هذا بركة؟!
بهذا المرتب بنيت بيتي هذا وأدخلت الـ 4 أولاد المدارس…
والأولاد لا يأخذون دروس خصوصية لأنهم متفوقين…أليس هذا بركة؟!
أديت فريضة الحج على نفقة وزارة الأوقاف كمكافأة لي على مجهوداتي… أليس هذا بركة؟!
انتهت المهمة
وصلنا إلى المحافظة، وترجلنا إلى البنك وانتهينا من التحويل وانصرفنا للخارج…
ذهبنا لأقرب مطعم وأكل كل واحد منا 2 سندوتش فول و طعمية…
طبعا دفع هو الحساب…
وبجوار المطعم محل عصير قصب؛ شربنا حتى ارتوينا من عصير القصب الطازج والمثلج…
وعلى بعد خطوات جلسنا على مقهى للاستراحة وشرب الشاي، وحتى يأتي ميعاد ميكروباص العودة …
رجعنا إلى القرية وطول الطريق لم نتحدث إلا عن البركة …
الخلاصة،،،
إذا نزلت البركة في شيء؛ سدَّت ما يسده غيرها بأضعاف مضاعفة.
فعلا البركة شئ مهم نفتقده هذه الأيام.