الثقة في الشبل تجعله أسدا

الثقة في الشبل تجعله أسدا1 دقيقة للقراءة

كان والدى رحمة الله عليه يريد أن يعتمد على أولاده الأربعة. وكان دائما يقول: أن يخطئ الإبن أمامى فاصلح له خطأه ليستفيد منه فى المستقبل؛ خير من أن يخطأ فى غيابي فلا يصحح له الآخرين أخطائه…

كان والدي رحمة الله عليه يريد أن يعتمد على أولاده الأربعة. وكان دائما يقول: أن يخطئ الإبن أمامى فاصلح له خطأه ليستفيد منه فى المستقبل؛ خير من أن يخطأ فى غيابي فلا يصحح له الآخرين أخطائه…

السباحة خارج الأسوار

كنت فى الرابعة عشر من عمري، وكنت أصغر الأولاد. فكلفني والدي بمهمة أن أسافر 500 كيلو متر من قريتنا إلى إحدى المدن البعيدة واسمها الإسكندية لأبيع محصول الرمان الذي حصدناه من أرضنا الزراعية التي كنا نمتلكها.

وكانت أول و أكبر سفرية لي من حيث البعد ومن حيث المهمة.

اعترض الأخوة الثلاثة الآخرين وطبعا الست الوالدة. 

ترجَّت أمي وطلبت من الوالد أن يسند إلىّ مهمة أصغر وأقرب ولو فشلت تكون الخسارة أقل.

ولكن السيد الولد كان مصمما وأصدر الأمر النهائي بأنني أنا سأكون المسئول عن بيع المحصول في هذه الرحلة.

لا تضع البيض في سلة واحدة

كان شريك معنا في هذه الرحلة عمي ذو الـ 60 عاما وهو أكبر من والدى بعشر سنوات…

كانت المهمة هي تحميل سيارة نقل كبير تسع 400 قفص (صندوق) رمان… 200 لنا و 200 لعمي…

نصحني والدي نصائح عامة منها ما هو موجز ومنها ما هو تفصيلي، منها:
ألا أغيب عن عيون عمي وأن أسمع له وأطيع؛ لكبر سنه وخبرته في الحياة مقارنة بخبرتي المتواضعة لصغر سني.

نصحني كذلك:
أن ألبس صديرى ذو الجيبين شمال ويمين،
وبنطال ذو الجيوب الأمامية والخلفية،
وأن أوزع المال على كل جيب ولا أضعها فى مكان واحد،
وأن احتفظ فقط بمصاريف السفر، وأن تكون حركاتي وتصرفاتي ومشيي طبيعي جدا وكأنه ليس معى شيئ…

نصحني أيضا:
أنه عند الوصول إلى الإسكندرية وإلى المنطقة المعروفة ببيع المحاصيل الزراعية لتجار الجملة واسمها شادر الحضرة (الشادرتعني المحل أو مكان البيع. الحضرة: اسم للمنطقة المشهورة في مدينة الإسكندرية)؛
أن أوزع الـ 200 قفص على 4 شوادر…
وعند استخراج الفواتير أن أقارنها ببعض، وآخذ أعلى سعر فاتورة…
وأذهب بهذه الفاتورة للآخرين، وأن أقول لهم أن السوق واحد والبضاعة واحدة فلماذا سعر فلان أغلى وسعركم أقل؟
فبذلك أحصل على أعلى سعر للبضاعة.

نصحني أخيرا:
ألا أدع شخصا يدفع لي مصاريفي الشخصية من أكل وشرب ومواصلات حتى ولو كان عمي.
فالقرابة شيء، والبيزنيس شيء آخر.

لا تختبر عمق البحر بكلا قدميك

وصلنا أنا وعمي إلى هذه المدينة البعيدة و نزلنا عند أول شادر.

لما نزلنا على أول شادر؛ استقبلنا الشادر بالكلام المعسول، وأقنع عمي أنه هو أعلى سعر في السوق، وأنه هو سيد السوق…إلخ

فأنزل عمي الـ 200 قفص الخاصين به عند هذا الشادر بسبب كلامه المعسول.

وأراد أن ينصحني بأن أنزل أقفاصي أيضا عند نفس الشادر حتى أوفر على نفسي المجهود الزائد والذي قد لا ينتج عنه نتيجة إلا التعب.

لكنني تذكرت نصيحة والدي، فأخبرته أنني لن أفعل ذلك.

واتفقت معه أنه إن أراد هو أن ينزل بضاعته كلها فلينزلها ويتركني أقوم بجولتي التي أخبرته عنها عند بقية الشوادر. وعرضت عليه أن يفعل مثلي لكنه رفض بحجة أنه أدرى بالسوق مني وأنه لا طائل من التعب غير المجدي.

وبالفعل…

قمت بتوزيع البضاعة على الأربع شوادر الذين دلني عليهم والدي مسبقا… وكانت المفاجأة!

فقد كان هذا الشادر الأول أقل سعر في السوق، وآخر شادر كان هو الأعلى سعرا.

فذهبت لبقية الشوادر وأخبرتهم بأن السوق واحد والبضاعة واحدة فأطلب منكم أن تعطوني بالسعر العالي. فما كان لهم إلا أن استجابوا لي بسبب وجود فواتير تثبت كلامي وحتى يحافظوا على صورتهم في السوق.

أما عمي لما علم بذلك؛ ذهب إلى شادره الأول وأراد أن يرفع السعر معه لكن الشادر لم يستجب له لأنه لا يملك فواتير لبضاعته تثبت كلامه. وحينما أراه فواتيري قال له هذه بضاعته هو وليست بضاعتك أنت فالسوق فعلا واحد لكن البضاعة ليست واحدة.

لم تفلح محاولة عمي في تغيير فاتورته واضطر أن يبيع بضاعته بأقل سعر وأن يقبل بالأمر الواقع.

فنظر إليّ وقال لي: أنت ولد ذكي.

قلت: شكرا يا عم، بل الذكاء ذكاء والدي الذى رسم لى الخطة، وما أنا إلا منفذ لأوامره.

فضحك ضحكة فيها نوع من الفخر بي وفيها استهزاء بنفسه، وكيف أن هذا الصغير يكون أذكى منه…

الإعتماد على الشباب وتشجيعهم والثقة فيهم أساس نهضة المستقبل

انتهينا من المهمة.

وفى عودتنا أراد عمي أن يكافئني بأي صورة من الصور.

فأراد أن يدفع لي تكاليف الأكل والشرب والمواصلات كمكافأة لي وإظهارا لفخره بي.

لكنني تذكرت نصيحة والدي بأن أدفع جميع مصاريفي؛ فاعتذرت له بأدب وشكرته على مشاعره الطيبة، لكنني لا أستطيع أن أدعه يدفع لي بسبب تعاليم ونصائح والدي والتي لابد لي أن أتبعها.

وصلنا إلى القرية.

فكانت أول كلمة قالها عمي لولدي: عندك ولد حِدِق ( ذكي).

وقص عليه كل ما حدث منذ خروجنا إلى عودتنا سالمين غانمين.

قبلني والدي وضمني إلى صدره.

شعرتُ بحنان، وفخر، وفرحة، واطمئنان، وعزة أنني لم أخذل والدي في أول مهمة لي صعبه وبعيدة…

قال لي الوالد: لا تقل لي كم صرفت وكم بقي فأنا أثف فيك. اعطني الفواتير فقط كي أضعها في مكانها مع الفواتير الأخرى، وأنت أعطِ الأموال لأمك. والمهم أنك وصلت لنا بالسلامة ونجحت فى المهمة…

الخلاصة

كانت هذه المهمة دستور حياة أتعلم منها حتى الآن وأحاول أن أعلمها لأولادي …

تعلمت أن الثقة في الشبل تجعله أسدا. 

من المهم أن تختبر أولادك وتضعهم في مواضع المسئولية في أمور تتحمل التجربة فيها.

لا يمكن أن تجعلهم يعتمدون عليك فقط. بل إجعلهم يعتمدون على أنفسهم مع توجيههم بخبرتك.

حتى وإن اختلفت مع ولدك في بعض وجهات النظر؛ اجعله يخوض التجربة وهو تحت اشرافك حتى يتعلم من تجارب الحياة.

رحمة الله عليك يا والدي وأعلى درجتك ومراتبك فى الجنة فقد كنت نعم الأب والأستاذ والمعلم.

ما هو تعليقك ؟

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.