في إحدى إجازات الصيف في قريتي المتواضعة – والصيف في القرى له وضع ومذاق خاص من حيث الطبيعة والهدوء والسهرات الليلية والأفراح وندوات الذكر مع المنشدين ……
طلبت من والدي قرش صاغ لشراء كيلو طماطم لعمل سلطة فى وجبة الغداء…
قرش صاغ وكيلو طماطم
طلبت من والدي ذاك القرش صاغ لشراء كيلو طماطم لعمل سلطة فى وجبة الغداء… لكنه لم يعر ما طلبته اهتماما…
فقال لي: خذ من أمك …
ذهبت إلى أمي وقلت لها: اعطيني قرش لشراء كيلو طماطم…
فقالت لي: اذهب إلى أختك الكبرى …
قلتُ وأنا غاضب:
أبي يقول لي اذهب لأمك!،
وأمي تقول لي اذهب لأختك!
بيت كبير عريض لا أحد معه قرش؟!
لماذا هذا؟!!!
خرجت من البيت إلى الشارع مسرعا وغاضبا، وضربت الباب بشدة، واتجهت إلى المسجد القريب من البيت.
وأنا على بعد خطوات قليلة من البيت، إذا ببصري يقع على محفظة كبيرة!
المحفظة
وكان وقت الظهيرة والشارع خالي تقريبا من المارة.
أخذتُ المحفظة، وخبيتها في صدري تحت ملابسي، ورجعت مسرعا إلى البيت.
قلت لوالدي: بالمناسبة وجدتُ هذه المحفظة…
فنظر إليّ بدهشة واستغراب وفخر…
وقال: أين وجدتها؟
قلت: على بعد خطوات من البيت …
أخذ والدي المحفظة، وقال لي: اجلس نفتحها ونرى ما بداخلها يمكن أن نتعرف على صاحبها…
وأول ما اتجه والدي؛ اتجه نحو البطاقة الشخصية… فعرف صاحبها… قال لي: هي ملك سيدك الحاج عبدالكريم ( 80 سنة) – و(انا 10 سنوات) –
أغلقها كما كانت، ووضعها تحت مخدة نومه، وقال لي: أتعرف بيت سيدك الحاج عبدالكريم؟
قلت له: نعم …
قال لي: اذهب واطرق الباب وقول له إن والدي يريدك…
ذهبت مسرعا إلى بيت الحاج عبدالكريم، وطرقت الباب…
فقال: من الطارق؟
قلت له أني ابن فلان ووالدى يريدك الآن …
فقال لي مغضبا: عد، وقل له أني قادم إليه حالا…
رجعت وبلغت والدي، فقال لي: اجلس ولا تذهب إلى أي مكان حتى يأتي سيدك الحاج.
تأخر الحاج، فقلت لوالدي: لقد تأخر سيدي الحاج…
فقال: انتظر قليلا، وبعدين تعاود الذهاب إليه مرة ثانية…
انتظرتُ وأنا على قلق. لأني كنت منتظر (المكافأة ) وكان في ذهني أن والدي سيعطيني قرش الصاغ الذي سأستطيع أن أشتري به كيلو الطماطم…
ولما تأخر أكثر من اللازم، قال لي والدي: إذهب إليه، ولا ترجع وتترك الباب إلا وهو معك…
ابن حلال ومالك حلال ولو ضاع هيلاقيه ابن حلال
وقبل أن أطرق الباب، سمعت صوته من الداخل يصيح فى زوجته، ويقول لها: بيت أبوي خرب… المحفظة ضاعت… وضاع معها كل شيء…
وهي تقول له: اصبر يا حاج، تكون تركتها هنا ولا هناك، ولا تخف ولا تحزن، انت ابن حلال، ومالك حلال، ولو ضاعت سيجدها ابن الحلال …
طرقت الباب: فقال لي بصوت عالٍ جدا – أعلى من صوت المرة السابقة – وقال: من الطارق؟
قلت له: أنا ابن فلان مرة أخرى، أبي يريدك الآن لأمر ضروري …
خرج الرجل مسرعا، وغاضبا، وغير منظم فى لبسه، حافي القدمين، ومعه عكاز يرتكز عليه، وقال لي: خير إن شاء الله؟
قلت له: خير إن شاء الله يا سيدي الحاج…
وكانت مشيته فيها نوع من العرج البسيط التي تعيقه في المشي في الوضع الطبيعي، ولكن من هول الصدمة والحزن؛ انطلق إلى منزلنا بسرعة البرق لدرجة أني أنا الطفل ذو الـ 10 سنوات كنت أجري للحاق به…
وصل إلى بيتنا وجلس على الفور على الأرض، وقال لوالدي: ضاع مني كل شيء… خرب بيت أبوى… ضاعت المحفظة وفيها الختم الخاص بي، وبعض أوراق البيوت والأراضي، والبطاقة…وووو…
وكان فى هذه الفترة شجار وخلاف مع إخوته وأولاد عمه …. على الميراث… والأوراق في هذه المحفظة يضمن بها ضمان حقه، وإلا سيذهب حقه بدون دليل عليه…
تركه والدي يفضفض ولم يرد عليه أو يقاطعه ليهون عليه أو يتحاور معه…
توقف الرجل عن الكلام والصياح المملوء بالحزن وخيبة الأمل من شدة التعب والإرهاق وكاد أن يغمى عليه …
قال لي والدي: هات كوب من الماء لسيدك الحاج… أحضرت كوب المياه لوالدي الذي أعطاها بدوره إلى الحاج وهو يضحك ويقهقه في الضحك…
فنظر اليه الحاج، وقال لوالدي: أتسخر مني أم تشمت فيّ ؟!!
فقال له والدي: لا هذا ولا ذاك، لو أعطيتني الفرصة لما كان هذا الكلام كله من صياح وعويل…
ووضع يده تحت المخدة وأخرج المحفظة،
وقال له: هذه هي محفظتك…
فنظر الرجل إلى والدي نظرة امتنان لم أشاهدها في حياتي حتى الآن… ومن شدة الفرح والبكاء والنصر؛ أغمي عليه ووقع على الأرض وهو جالس…
القرش بألف قرش
فقام والدى بصب بعض الماء البارد على وجهه حتى فاق، وقال: الحمد لله رب العالمين…لقيتها فين؟
فقال له والدي: إن ابني وجدها فى الشارع، وأتى بها إلىّ، وفتحتها، ولما عرفت أنها لك؛ أرسلته لك مرتين … فنظر إلىّ نظرة تعبر عن شعور الرجل بالامتنان والشكر الكثير، وفتح المحفظة، وأخرج 10 جنيهات ورقة واحدة!!
كان هذا المبلغ في هذه الفترة كبير جدا جدا ( الـ 10 جنيهات تساوي ألف قرش… وكيلو الطماطم أقل من قرش )
مد يده بها إليّ… فصاح والدي، وصرخ فى وجهه، وقال له: ماذا بك يا حاج؟! 10 جنيه حية!!!! لا وألف لا، ولا نريد شيء… وإن كنت مُصِرّ على مكافأته؛ أعطه قرش أو قرشين أو حتى 5 قروش…
في هذه الأثناء أنا أراقب الحوار والفصال في مكافأتى..
فقال الرجل: عليّ الطلاق بالتلاتة لا يأخذ إلا الـ10 جنيهات وهي قليلة جدا عليه، ويا ريت ما تخدعه وتأخذها منه… ما زلت أراقب الحوار وأنا في تأهب تام لكي ألتقط المكافئة وألوذ بالفرار،،
فقال لي الرجل: مد يدك، وخذ مكافئتك.
وعلى الرغم من أني أريد أن آخذها، لكني نظرت لوالدي لكي آخذ منه الموافقة، فعيب عليّ أن آخذ شيء من أحد بدون إن أحد والديّ…
فنظر إليّ والدي نظرة الإيجاب، فلم أتمم بقية النظر… التقطتُ الـ10 جنيه بسرعة البرق، وأسرعت إلى داخل البيت، وبدأت أرقص وأرفع هذه العملة المالية في الهواء بحركات بهلوانية، وأقول للجميع وأنا في نشوة الإنتصار: مرضتوش تعطونى قرش فربنا رزقني بـ 1000 قرش …
فجرى ورائي أمي وأخوتي يريدون أن يأخذوها مني ظنا منهم أني سرقتها…
لكن لما علموا بالقصة زال منهم هذا الشك لكن رغبتهم في أخذها مني لم تنتهي…
تقرب إلىّ الجميع، وبدأت المساومات والإغراءات والكلام المعسول…
وخلال نصف ساعة جاءت الطماطم طبق السلطة!
من أين؟ وكيف؟ ومن جاء بها؟ … لا أدري!
زرع الأخلاق الحميدة فن راق
أصبحنا أنا والحاج عبد الكريم أصحاب في الشارع… كل ما يقابلني يعطني الحلوى… وفي الأعياد يعطني العيدية…
وفي المسجد كان يجلسني بجواره في الصفوف الأولى …
لدرجة أن إمام المسجد قال لي ذات مرة: ارجع للصوف الخلفية، الأطفال في الصفوف الخلفية…
فقال له الحاج أمام الجميع: هذا ليس طفلا، هذا رجل وأبو الرجال…
وحكى القصة كاملة أمام المصلين… فنلت احترام الجميع بما فيهم الإمام… وانتشرت قصتي في القرية وذاع صيتي…
وكان دائم السؤال عني إلى أن توفاه الله…
رحمة الله عليه وعلى والدى ووالدتى وعلى أيام الزمن الجميل…
الخلاصة،،،
- ما أخذ الله منك إلا ليعطيك.
- الأمانة سلاح نافع للدفاع الداخلي عن المجتمع واستقراره.
- صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
- رغبتك في الشيء ليست مبررا أن تأخذه دون احترام العادات و التقاليد السليمة.
- إن وجدت خيرا في شخص، إلفت الضوء لهذا الخير، ففيه تثبيت لهذا الشخص على الخير، وفيه زرع لهذا الخير في غيره…
- إن عملت الخير فسيرزقك الله فوق ما كنت ترجو، أنا كان نفسي فقط في قرش؛ فلما التزمت الخير ولم آخذ المال من الحرام، رزقني الله حلالا صافيا بألف قرش…